نوبة شجن ما كتبه صاحب الأشجار عن النوبة،
أعادني إليها. وهذه انطباعاتي بعد هذه المدة.
من النوبة لم يبق سوى الماء و الصحراء. كميات لا نهائية من المياه، حتى أني أعرف من يراها مخيفة.
يظن المرء أن وجود الماء يوجب وجود الزرع، بل إن هذه الكميات من المياه كانت أوجدت حولها الغابات، لو كان الأمر كذلك.
لا أعرف لماذا ظلت هذه المنطقة من مصر صحراء طوال هذه المدة. المشروعات
التزريعية الضخمة حول تشكى التي صاحبتها دعاية حكومية أضخم، و التي تكلفت ملايين الجنيهات لم يفد منها سوى عدد محدود من الشركات العملاقة التي توجه إنتاجها كليا للتصدير، و مع هذا مازال مصيرها غامضا.
و مشروعات استصلاح الأراضي التي ما زالت قيد الإنشاء في الشرق، تسعى الدولة من خلالها إلى توطين مزارعين من أماكن أخرى، بينما أهل المنطقة الأصليين يذوون بعيدا عن النهر، مجرى حياتهم و معمد أطفالهم، و موضوع أغانيهم. أذكر أن عبده شفة ذكر أن أحدا قد أثار هذه القضية في مجلس الشعب الكسيح.
ربما لو لم تمنع الحكومة استيطان النوبيين حول بحيرتهم، لو تركتهم يؤسسون مجتمعاتهم الجديدة حولها بدلا من أن تزرعهم في مستعمرات من علب الكبريت في وديان الصعيد الجافة التي تسكنها العقارب. فعلا، هناك مشروع نفذته مؤسسة تنموية لمكافحة العقارب في إحدى
البلانّات الجديدة.
و البلانات هذه موضوع آخر، فأسماء التجمعات النوبية الجديدة مستوحاة من أسماء القرى القديمة، لكن تلحقها أرقام مثل: "بلانة ثالث"، تخيل أن تسكن في بلدة اسمها
نجع الفرطوس بِشَرْطَة!!
و مع هذا فالنوبيون لم يستسلموا، على الأقل ما زال منهم من يقاوم؛ في نولوة الجديدة، على بعد 20 كيلومترا من أبو سمبل، استقرت أسر نوبية مكافحة، رفضوا الإقامة في الإسكان الحكومي، و راحوا يبنون بيوتهم بأنفسهم، و يزرعون حولها الشجيرات و الزهور، و أطفالهم يطاردون العقارب في الأحواش.
في نولوة الجديدة، التي يعني اسمها البيضاء، حيث استضافتنا أخت دليلنا النوبي محمد في منزلها البسيط، تعرفنا على الناس من قرب، استمعنا إلى حكياتهم، و لمسنا كرمهم و حنينهم.
في القرى الجديدة الأخرى كان أصدقاء و معارف مضيفينا يتجاذبوننا لندخل بيوتهم ليضايفونا. و في أبو سمبل و نحن نسير، لم يكن هناك من لا يعرف صاحبنا فرح، المغني الشعبي ذي الصوت الأفريقي الجميل؛ خال رفيقنا محمد رمضان.
عندما عبرنا إلى شرق البحيرة، أو كما يختصر الناس الاسم إلى
الشرق بعد طول انتظار في العبارة الراسية، و رحلة قصيرة في البحيرة هي الأولى لي وراء السد، عرض علينا مرافقونا العابرون العاملون في مشروع استصلاح الأراضي هناك أن يوصلونا بسيارتهم إلى قُسطل، بعد أن كان تعارفنا نتيجة فضولهم عما نفعله هنا، و فضولنا عن ما يعملونه هم و عن مشروعهم. و بالرغم من أننا رفضنا في البداية متعللين بأننا نريد أن نمشي لنتفرج، إلا أنني متأكد من أن كل منا كان مسرورا أننا لم نتمسك بالرفض في هذا القيظ.
في قسطل، تمشينا بجوار الشاطئ و التقطنا صورا. مساكن تبدو مهجورة لعمال المشروع الزراعي، بيوت تلوح من بعد تحاول أن تبدو نوبية، و بيوت فقيرة نسير بينها يسكنها العبابدة. لم تفلح حيلتنا في الحوار مع رجل منهم على أمل أن يدخلنا بيته، بينما شاكسنا أطفالهم و زجرتنا نساؤهم عندما لمحن الكاميرات في أيدي رفاقي، فاضطررنا أن نلجأ إلى الحيلة. كل هذا و مرافقنا محمد لا يكف عن التوكيد على الفارق ما بين النوبيين و غيرهم، في الدماثة و النظافة و الكرم، و بدا لنا أن الحق معه.
اصطحبنا عبده شفه في زيارة سريعة إلى سيدة عجوز تعيش في بيت فسيح أقرب ما يكون إلى النوبي، يحيط سوره ببستان كبير وارف الأشجار. بعد أن توفي زوجها، تعيش السيدة في البيت وحدها و ترعى بستانها ، و يأتي أبناؤها من المدينة حيث يعملون و يدرس أبناؤهم لزيارتها في العطلات.
لم نتمكن من زيارة أدندان تلك المرة.
بعد أن عدنا من الشرق، توجهنا إلى مكتب المخابرات لنستعيد بطاقاتنا الشخصية التي كنا تركناها
كرهن؟ عند استخراجنا التصريح اللازم للعبور. عند الباب المعدني الكبير، طَالبنا الممسك ببطاقاتنا أن نعيد إليه التصريح الذي هو عبارة عن طلب كتبته على ورقة بيضاء و ملأته بكلمات إنشائية راعيت فيها أن تبز الطلبات الحكومية سخافة و رتابة، موضحا فيه سبب الزيارة و مذيله ببياناتنا الرسمية و صور البطاقات التي احتفظوا بها، مهره قائد مكتب المخابرات بالتوقيع و الختم. قبل أن يعيد إلينا البطاقات سألنا في لمحة ذكاء مخابراتي نادر عما إذا كنا نحمل كاميرات عندما ذهبنا، و لما أجبته أن نعم، و أنا أتخيل خيبة الأمل في ذكائي و حسرة فقدان الأمل التي لا بد تلوح من رفاقي الذين يقفون ورائي، باغتني بالسؤال عما صورته هناك. الحقيقة أني جال في خاطري كل ما شاهدناه في ذلك النهار، و ما يمكن أن نكون قد صورناه، و لم أجد ما أفرحه به غير أن أخبره باقتضاب متعمد:
الناس النوبيين.
عرض الصوت و الضوء في أبو سمبل الهادئة النظيفة هو الوحيد الذي يستحق أن يُسمى كذلك. العرض يرسم على وجه المعبدين قصتهما منذ أنشأهما رمسيس الثاني حتى نقلهما إلى مكانهما الحالي.